بدأها ماكرون مهدِّدًا وأنهاها مصفوعًا… المبادرة الفرنسية “تخبزوا بالأفراح”
بعد عشرة أشهر من مراوحة المبادرة الفرنسية تجاه لبنان مكانها، خرج يوم أمس الرئيس ايمانويل ماكرون ليؤكّد أنّ بلاده “تريد حكومة إصلاح في لبنان وتتمسك بخارطة الطريق التي اقترحتها سابقًا”، وبعد حلقات من التهديد والوعيد والويل والثبور وعظائم الأمور لمن يقف في طريق المبادرة، بدا المشهد الفرنسي، الداخلي والخارجي، كاريكاتوريًا جدًا وهو يشبه عصر انحطاط الأمم عند خريف العمر وزوال السلطة والقدرة.
فجأةً دون سابق إنذار شرب الفرنسي “حليب سباع” وحط في ديارنا (أو عاد) متسلحًا بصدمة اللّبنانيين والعالم من انفجار المرفأ، متوعدًا الطبقة السياسية، معمّمًا اللّغة والمصطلحات على طريقة “ثوار بيروت”. وما بين أيلول 2020 وحزيران 2021 تغيّرت الأحوال ومعالم السياسة الدولية، من سقوط ترامب إلى انتصار غزة، ومن ورقة جلب الطبقة الحاكمة إلى قصر الصنوبر إلى استقبال قائد الجيش العماد جوزيف عون بخرق بروتوكولي رئاسي فرنسي والتعويل على دور للجيش في حال الفوضى. فهل هذا أمر طبيعي لتعقيد الملف اللّبناني أم يعبّر عن ضعف وتراجع الدور الفرنسي؟.
أحد الكتّاب العرب المقيمين في عاصمة الأنوار يعبّر عن استهجانه من مبالغات الإعلام اللّبناني، كما بعض طبقته السياسية، من حجم الدور الفرنسي واستقلاليته عن القرار الأميركي، ويعلّق على مآل المبادرة بالقول “بكلّ بساطة، كما يتعرض رئيس “فرنسا العظمى” للصفع على وجهه أمام الكاميرات وعيون العالم دون أن يتمكّن من الرد الحقيقي، هذه هي حاله مع كثير من المهمّات والمبادرات التي يحاول القيام بها”.
ويسأل الصحافي “بعد هذه الأشهر العشرة ألم يسأل اللّبنانيون أين هم أحفاد “الأم الحنون” ممّا وعدتمونا به؟ وكيف يمكن للدولة “العظمى” أن تتخبّط هكذا وتلوح بالعصا ثم تنزوي في العتمة غير قادرة على الفعل أو المبادرة أو تنفيذ التهديد؟”.
ويضيف هذا المثقف “تصور أنني وعدد من الأصدقاء والزملاء نسعى للإنتقال من فرنسا لأنها لم تعد مصدرًا للخبر ومرجعًا قياديًا في السياسة العالمية، هي أمة في طور التراجع السريع والتحلل”.
وينفث كمية كبيرة من دخان سيجارته ويضحك بسخرية “غريب أمركم في هذا البلد، الإعلام اللّبناني وبعض النخب تقرأ في كلام السياسيين الفرنسيين وكأنّه كتاب منزل، في حين أنّ الطبقة السياسية اللّبنانية تعرف تمام المعرفة أنّ لا ترجمة فعلية للتهديدات الفرنسية ولا تستطيع هذه الإدارة التصرّف خارج السقف الأميركي مطلقًا، وبالتالي تراجعت حظوظ المبادرة “الماكرونية” إلى حدود التلاشي”.
والسؤال البديهي لماذا هذا التناقض بين موقفي الإدارة منذ آب الماضي إلى اليوم فيأتيك الجواب سريعًا “في أعقاب انفجار المرفأ طغت العناوين الأخلاقية على تصرّفات الإدارة وردود فعلها، فكان للسفير إريك شوفالييه دورًا مهمًا في وضع أسس المبادرة الفرنسية، وشوفالييه هو السفير الفرنسي السابق في لبنان وهو اليوم مديرًا لمركز “الأزمات والمساندة التابع لوزارة أوروبا والشؤون الخارجية”، وهو بالمناسبة من فريق الرئيس الراحل جاك شيراك ومؤيّدًا لآل الحريري، فكانت المبادرة بضوء أخضر أميركي بتوليفة هجينة يترأس سعد الحريري حكومة اختصاصيين كمخرج “شرعي” تجاه الأميركي باستبعاد صورة فاقعة لوزراء يمثّلون حزب الله وكمخرج مقبول تجاه الرأي العام اللّبناني والدولي أنّنا استبعدنا الطبقة السياسية الذائعة الصيت”.
ويتابع “لكنّ الدخول الفرنسي إلى وحول الأرض اللّبنانية ليس كما الخروج منها، فقد استدرجت الطبقة السياسية اللّبنانية كلّ الزخم الفرنسي وأخذت تتلاعب بهم حتى حولتهم إلى أضحوكة في كيفية “تنفيس” المبادرة ثم تحويرها وتحويلها إلى ما يخدمها نفسها”، وهنا يتدخّل زميل له مقيم في جنيف قائلًا “البيت الداخلي الفرنسي، على ما يبدو قد أصبح بمنازل كثيرة ومتداعية، فقد تبيّن أنّ الإدارة الفرنسية قد عادت وانقسمت بين الخارجية التي تؤيّد دعم سعد الحريري وتعتبره الأفضل للمصالح الفرنسية، وبين جماعة الأمن والدفاع والمخابرات التي تعتبر الخطأ الجسيم في عدم دعم رئيس الجمهورية ميشال عون، أو على الأقل توازن بينه وبين الحريري، وهو يمثّل الشريحة التي تقف إلى جانب فرنسا تاريخيًا”.
وعن العقوبات الفرنسية والأوروبية أين أصبحت، فيضحك الضيفان بقوة ويرد أحدهم “لقد جاءت التعليمة الأميركية واضحة: هناك عدد من الشخصيات السياسية ممنوع أن تُمس بالعقوبات وعلى رأسها مثلًا الرئيس نبيه بري، عندها بماذا تهدّد الأم الحنون؟؟”.
وبالخلاصة؛ “تخبزوا بالافراح”، المبادرة الفرنسية انتهت دون أن تبدأ وما زالت الطبقة الحاكمة في الفلك الأميركي وتبتز الحزب ورئيس الجمهورية، وما زالت الإدارة الفرنسية متوهمة أنّها قادرة على تقديم الحلول… سقف هذه الإدارة الفرنسية لبنانيًا: أن تقدم عروضًا جوية مقبولة وأن يزور رئيسها السيدة فيروز مع فنجان قهوة وحبة شوكولا…
عامر ملاعب